كان صندوق النقد الدولي على مرّ الأيام والسنين المدافع القوي عن «التقشف» باعتباره طريق الخلاص من الأزمات المالية. وهو يعاقب عشرات الدول سنوياً بسبب سوء السلوك المالي. وتعدّ الدعوة إلى تحقيق «التماسك في النظام المالي»- التي يتم التعبير عنها بعبارة أكثر تهذيباً هي «الاقتطاع من الإنفاق الحكومي العام»- مربط الفرس في البرامج الإنقاذية المالية لصندوق النقد الدولي. وخلال السنة الماضية، توصل «قسم العلاقات المالية» التابع للصندوق إلى أن الولايات المتحدة تعاني من «فجوة مالية» تعادل نحو 10 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي، ويتطلب تضييقها زيادة كبيرة في الضرائب وتقليصاً أكبر في الإنفاق الحكومي العام. ودفعت الأوضاع المالية المعقدة التي تعيشها العديد من بلدان العالم الصندوق إلى إصدار تقرير اقتصادي استشرافي عالمي على جانب كبير من الأهمية. وفي هذا التقرير، يدافع الصندوق عن فكرة تحقيق أكبر زيادة ممكنة في مشاريع الاستثمار بالبنى التحتية العمومية، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في معظم بلدان العالم. وأشار التقرير أيضاً إلى أنه، تحت بعض الظروف التي تتفاقم فيها مشكلة البطالة، كتلك التي تسود الغالبية العظمى من الدول الصناعية، فإن التداعيات المشجعة لهذه الفكرة ستكون أعظم بكثير لو أن هذه الاستثمارات جاءت عن طريق الاقتراض بدلا من تخفيض الإنفاق في بقية القطاعات الحكومية أو زيادة الضرائب. والملاحظة الأكثر أهمية ضمن التقرير هي إشارته إلى أن الاستثمار المخطط على النحو السليم في البنى التحتية سوف يؤدي إلى تخفيض الأعباء المترتبة على المديونية الحكومية بدلاً من زيادتها. ويمكن التعبير عن هذه الفكرة بطريقة أوضح مفادها: «إن الاستثمارات في البنية التحتية يمكنها أن تغطي تكاليفها من عوائدها». فلماذا آثر الصندوق عرض هذه النتيجة؟ دعنا نتخيل مشروعاً استثمارياً افتراضياً لإنشاء طريق سريع جديد ممول بشكل كامل بطريقة الاقتراض. ولنفترض جدلا أن عملية تشييد الطرق السريعة تخلو من العوائد والحوافز المشجعة، ونفترض أيضاً بأن هذا الاستثمار يحقق ربحاً سنوياً يقدر بنحو 6 بالمئة فقط من رأس المال الموظف فيه، وهو افتراض يتطابق مع التقديرات المقبولة بشكل واسع للعوائد المتوقعة من الاستثمار في البنى التحتية العمومية. فسوف ترتفع قيمة العائدات الضريبية السنوية المحسوبة وفقاً لمعدل التضخم، بمعدل 1.5 بالمئة من أصل قيمة المبالغ المستثمرة طالما أن الحكومة تقتطع 25 سنتاً من كل دولار إضافي على الأرباح. وتنخفض الفوائد على الأرباح الحقيقية عن معدل 1 بالمئة في الولايات المتحدة ومعظم دول العالم الصناعي، ومن المقدر أن تحافظ على معدلها هذا خلال السنوات الثلاثين المقبلة. وهذا يعني بالنتيجة أن الاستثمار في البنى التحتية يجعل من تخفيض الأعباء على أجيال المستقبل أمراً ممكناً. والحقيقة أن هذه الحسابات تأخذ بعين الاعتبار النتائج الإيجابية للاستثمار في مشاريع البنى التحتية المخططة بطريقة سليمة وفقاً لما أشار إليه صندوق النقد الدولي. ثم إن العوائد الضريبية التي ستنتج عن تكليف الناس بالعمل في تشييد بنية تحتية جديدة يمكن أن تساهم في مكافحة ظاهرة الركود الاقتصادي على المدى البعيد، وتحقق مداخيل إضافية جديدة. وبأخذ مختلف هذه العوامل في الحسبان، وجد صندوق النقد الدولي أن استثمار كل دولار واحد في البنى التحتية سوف يزيد الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3 دولارات. كما أن الاستثمار في البنى التحتية ينطوي على العديد من الحوافز المشجعة الأخرى وخاصة في الوقت الراهن حيث تتوافر الكثير من المصادر غير المستغلة وبما يجعل الاستثمار في بنى تحتية أكثر ضخامة لا يكون على حساب الإنفاق في مجالات أخرى. وفي الولايات المتحدة مثلاً ، هناك حاجة ملحة لوضع ميزانية طويلة الأجل للاستثمار في البنى التحتية، شريطة أن تكون محتكمة إلى دراسات دقيقة وموسعة حول الجدوى والعوائد والتكاليف. وهناك أيضاً حاجة ملحة لإجراء إصلاحات تشريعية تسمح بإصدار تراخيص المشاريع والإسراع في تنفيذها بقدر المستطاع. كما أن هناك حاجة للانتباه إلى أنه بوسع الحكومة أن تقدم مساهمة ضخمة في الاستثمار بالبنى التحتية عن طريق دعم الاستثمارات الخاصة في مجالات محددة، مثل قطاعي الاتصالات والطاقة. وتنطوي مثل هذه القطاعات على أرباح وعوائد عالية كما تعتبر من أكثر القطاعات الصناعية والاستثمارية امتصاصاً للأيدي العاملة والحد من مشكلة البطالة. وفي أوروبا، تقتضي الضرورة ابتداع الآليات المناسبة التي تسمح بتمويل مشاريع البنى التحتية وفق نظام مالي مستقل عن الميزانية العامة. ويمكن تحقيق ذلك بتوسيع «البنك الأوروبي للاستثمار» على النحو الذي يجعله يضطلع بدراسة وتمويل كل المشاريع ذات العوائد العالية والمخاطر الاستثمارية المنخفضة. أما في الأسواق الناشئة، فهناك حاجة للتأكد من أن المشاريع المتعلقة بالبنى التحتية يتم اختيارها بطريقة عقلانية مبنية على حسابات العوائد وتخفيض أزمنة الإنجاز وتجنب أضرار التأخر في التنفيذ. والشيء البالغ الأهمية في كل مكان من العالم هو الانتباه إلى أنه في زمن العجز الاقتصادي المنتشر في العديد من البلدان، والاستثمار غير الكافي في البنى التحتية، فإن من واجب الحكومات أن تبحث عن السبل المناسبة لتحسين أوضاعها المالية بمراجعة هذا القصور. وقد توصل صندوق النقد الدولي إلى نتيجة مهمة تقضي بأن الدول التي تضع الحكمة شعاراً لها أثناء اختيارها مشاريع توسيع بنيتها التحتية هي التي ستحقق الفوائد القصوى. لورانس سامرز وزير الخزانة والمستشار الاقتصادي السابق لأوباما ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس